الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي
ولكن، القرية التي ضربها الله لنا مثلاً هنا، هل هي قرية معينة أم المعنى على الإطلاق؟ قد يُراد بالقرية قرية معينة كما قال البعض إنها مكة، أو غيرها من القرى، وعلى كلٍّ فتحديدها أمر لا فائدة منه، ولا يُؤثِّر في الهدف من ضَرْب المثل بها.والقرية: اسم للبلد التي يكون بها قِرىً لمن يمرُّ بها، أي: بلد استقرار. وهي اسم للمكان فإذا حُدِّث عنها يراد المكين فيها، كما في قوله تعالى: {وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا والعير التي أَقْبَلْنَا فِيهَا..} [يوسف: 82].فالمراد: اسأل أهل القرية؛ لأن القرية كمكان لا تُسأل.. هكذا قال علماء التفسير، على اعتبار أن في الآية مجازاً مرسلاً علاقته المحلية.ولكن مع تقدُّم العلم الحديث يعطينا الحق تبارك وتعالى مدداً جديداً، كما قال سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ..} [فصلت: 53].والآن تطالعنا الاكتشافات بإمكانية التقاط صور وتسجيل أصوات السابقين، فمثلاً يمكنهم بعد انصرافنا من هذا المكان أن يُسجِّلوا جلستنا هذه بالصوت والصورة.ومعنى ذلك أن المكان يعي ويحتفظ لنا بالصور والأصوات منذ سنوات طويلة، وعلى هذا يمكن أن نقول: إن القرية يمكن أنْ تُسأل، ويمكن أن تجيب، فلديها ذاكرة واعية تسجِّل وتحتفظ بما سجَّلته، بل وأكثر من ذلك يتطلعون لإعادة الصور والأصوات من بَدْء الخليقة على اعتبار أنها موجودة في الجو، مُودعة فيه على شكل موجات لم تُفقد ولم تَضِع.وما أشبه هذه الموجات باندياح الماء إذا ألقيتَ فيه بحجر، فينتج عنه عدة دوائر تبتعد عن مركزها إلى أنْ تتلاشى بالتدريج.إذن: يمكن أن يكون سؤال القرية على الحقيقة، ولا شك أن سؤال القرية سيكون أبلغ من سؤال أهلها، لأن أهلها قد يكذبون، أما هي فلا تعرف الكذب.وبهذا الفهم للآية الكريمة يكون فيها إعجاز من إعجازات الأداء القرآني.وقوله تعالى: {كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً...} [النحل: 112].آمنةً: أي في مَأْمَن من الإغارة عليها من خارجها، والأمن من أعظم نِعَم الله تعالى على البلاد والعباد.وقوله: {مُّطْمَئِنَّةً..} [النحل: 112].أي: لديها مُقوِّمات الحياة، فلا تحتاج إلى غيرها، فالحياة فيها مُستقرَّة مريحة، والإنسان لا يطمئن إلا في المكان الخالي من المنغِّصات، والذي يجد فيه كل مقومات الحياة، فالأمن والطمأنينة هما سِرُّ سعادة الحياة واستقرارها.وحينما امتنَّ الله تعالى على قريش قال: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 1-4].فطالما شبعت البطن، وأمنتْ النفس استقرت بالإنسان الحياة.والرسول صلى الله عليه وسلم يعطينا صورة مُثْلى للحياة الدنيا، فيقول: (مَنْ أصبح معافىً في بدنه، آمناً في سربه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها).ويصف الحق سبحانه هذه القرية بأنها: {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ...} [النحل: 112].معلوم أن الناس هم الذين يخرجون لطلب الرزق، لكن في هذه القرية يأتي إليها الرزق، وهذا يُرجِّح القول بأنها مكة؛ لأن الله تعالى قال عنها: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [القصص: 57].ومن تيسَّر له العيش في مكة يرى فيها الثمرات والمنتجات من كل أنحاء العالم، وبذلك تمَّتْ لهم النعمة واكتملتْ لديهم وسائل الحياة الكريمة الآمنة الهانئة، فماذا كان منهم؟ هل استقبلوها بشكر الله؟ هل استخدموا نعمة عليهم في طاعته ومَرْضاته؟ لا.. بل: {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله..} [النحل: 112].أي: جحدت بهذه النعم، واستعملتها في مصادمة منهج الله وشريعته، فكانت النتيجة: {فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].وكأن في الآية تحذيراً من الحق سبحانه لكل مجتمع كفر بنعمة الله، واستعمل النعمة في مصادمة منهجه سبحانه، فسوف تكون عاقبته كعاقبة هؤلاء.{فَأَذَاقَهَا الله..} [النحل: 112].من الذوق، نقول: ذاق وتذوَّق الطعام إذا وضعه على لسانه وتذوَّقه. والذَّوْق لا يتجاوز حلمات اللسان. إذن: الذوْق خاصٌّ بطعْم الأشياء، لكن الله سبحانه لم يقُلْ: أذاقها طعم الجوع، بل قال: {لِبَاسَ الجوع والخوف..} [النحل: 112].فجعل الجوع والخوف وكأنهما لباسٌ يلبسه الإنسان، والمتأمل في الآية يطالع دقّة التعبير القرآني، فقد يتحول الجوع والخوف إلى لباس يرتديه الجائع والخائف، كيف ذلك؟الجوع يظهر أولاً كإحساس في البطن، فإذا لم يجد طعاماً عوّض من المخزون في الجسم من شحوم، فإذا ما انتهتْ الشحوم تغذَّى الجسم على اللحم، ثم بدأ ينحت العظام، ومع شدة الجوع نلاحظ على البشرة شحوباً، وعلى الجلد هُزَالاً وذبولاً، ثم ينكمش ويجفّ، وبذلك يتحول الجوع إلى شكل خارجي على الجلد، وكأنه لباس يرتديه الجائع.وتستطيع أن تتعرف على الجوع ليس من بطن الجائع، ولكن من هيئته وشُحوب لونه وتغيُّر بشرته، كما قال تعالى عن الفقراء الذين لا يستطيعون ضرباً في الأرض: {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً..} [البقرة: 273].وكذلك الخوف وإنْ كان موضعه القلب، إلا أنه يظهر على الجسم كذلك، فإذا زاد الخوف ترتعد الفرائص، فإذا زاد الخوف يرتعش الجسم كله، فيظهر الخوف عليه كثوب يرتديه.وهكذا جَسَّد لنا التعبير القرآني هذه الأحاسيس الداخلية، وجعلها محسوسة تراها العيون، ولكنه أدخلها تحت حاسَّة التذوق؛ لأنها أقوى الحواسّ.وفي تشبيه الجوع والخوف باللباس ما يُوحي بشمولهما الجسم كله، كما يلفّه اللباس فليس الجوع في المعدة فقط، وليس الخوف في القلب فقط.ومن ذلك ما اشتُهِر بين المحبين والمتحدثين عن الحب أن محله القلب، فنراهم يتحدثون عن القلوب، كما قال الشاعر: فإذا ما زاد الحب وتسامى، وارتقت هذه المشاعر، تحوَّل الحب من القلب، وسكَن جميع الجوارح، وخالط كل الأعضاء، على حَدِّ قول الشاعر: وقوله: {بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].أي: أن الحق سبحانه ما ظلمهم وما تجنَّى عليهم، بل ما أصابهم هو نتيجة عملهم وصدودهم عن سبيل الله، وكفرهم بأنعمه، فحبسها الله عنهم، فهم الذين قابلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصُّدود والجحود والنكران، وتعرَّضوا له ولأصحابه بالإيذاء وبيَّتوا لقتله، حتى دعا عليهم قائلاً: (اللهم اشْدُدْ وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف).فاستجاب الحق سبحانه لنبيه، وألبسهم لباس الجوع والخوف، حتى إنهم كانوا يأكلون الجيف، ويخلطون الشعر والوبر بالدم فيأكلوه.وظلوا على هذا الحال سبع سنين حتى ضَجُّوا، وبلغ بهم الجَهْد والضَّنْك مُنْتهاه، فأرسلوا وفداً منهم لرسول الله، فقالوا: هذا عملك برجال مكة، فما بال صبيانها ونسائها؟ فكان صلى الله عليه وسلم يرسل لهم ما يأكلونه من الحلال الطيب.أما لباس الخوف فتمثَّل في السرايا التي كان يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لترهبهم وتزعجهم؛ ليعلموا أن المسلمين أصبحتْ لهم قوة وشوكة.ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ...}.
|